07/01/2025
لم تكن العقوبات المفروضة على سوريا أداة ضغط جديدة استخدمها المجتمع الدولي للضغط على نظام الأسد إبان بداية الثورة السورية عام 2011، بل كان للعقوبات تاريخ طويل مع نظام الأسد منذ حكم الأب.
بدأ مسلسل العقوبات على سوريا عام 1979 حين قامت الولايات المتحدة الأمريكية بوضع سوريا في قائمة الدول الراعية للإرهاب نتيجة دعمها لحزب الله اللبناني آنذاك، في عام 1986 فرض الاتحاد الأوروبي حزمة من العقوبات شملت حظر بيع الأسلحة الجديدة إلى سوريا، وحظر الزيارات رفيعة المستوى، ومراجعة موظفي السفارة والقنصليات، وفرض تدابير أمنية صارمة فيما يتصل بالخطوط الجوية السورية. وقد تم رفع هذه التدابير في عام 1994. كما منعت الولايات المتحدة الشركات الأميركية من بيع طائرات أو مكونات لشركة الطيران السورية.
اشتدت الضغوط على النظام السوري آنذاك ر مع توقيع قانون محاسبة سوريا واستعادة السيادة اللبنانية عام 2003، والذي فرض عقوبات صارمة تتضمن حظر تصدير التكنولوجيا الأمريكية ومنع الشركات الأمريكية الدخول في عقود مع الحكومة السورية بالإضافة إلى حظر التعاملات المالية مع الجهات الحكومية السورية.
مع بداية الثورة السورية في شهر آذار 2011، والقمع الممنهج لنظام الأسد للمظاهرات السلمية التي انطلقت من مختلف المدن السورية، كان التحرك الدولي الأول ضد النظام آنذاك فرض المزيد من العقوبات الاقتصادية عليه.
ففي نيسان 2011 وقع الرئيس الأمريكي آنذاك باراك أوباما القرار التنفيذي لأولى العقوبات الفردية ضد الحكومة السورية وقيادات نظام الأسد بسبب انتهاكاتهم لحقوق الإنسان، وبعد شهر تقريبا حذى الاتحاد الأوروبي حذو الولايات المتحدة وقام بفرض عقوبات محددة على أفراد من النظام السابق. وتسابقت بعدها دول مثل كندا واليابان والمملكة المتحدة وتركيا واستراليا بفرض العقوبات على النظام السوري آنذاك وشملت تلك العقوبات حظر كامل على قطاع النفط السوري وحزمة عقوبات استهدفت بشكل خاص التعاملات المتعلقة بالأسلحة، والنفط، والغاز الطبيعي، والمعادن الثمينة، والبتروكيماويات، بالإضافة إلى حظر التعامل مع أفراد وكيانات مرتبطة بالنظام السوري متهمين بارتكاب جرائم حرب وانتهاكات لحقوق الإنسان.
في تشرين الثاني 2011، أعلنت الجامعة العربية عن تجميد الأصول المالية للحكومة السورية، وانتهاء التبادل المالي مع البنك المركزي السوري، ووقف الخطوط الجوية بين بلدان الجامعة العربية وسوريا، وحظر على إقامة العديد من الشخصيات السورية، ووقف الاستثمارات في سوريا من جانب دول الجامعة العربية.
في حزيران 2012، حظر الاتحاد الأوروبي تجارة السلع الكمالية مع سوريا، فضلاً عن عدد من المنتجات التجارية. وفي الوقت نفسه عزز الاتحاد الأوروبي تدابير القيود المفروضة على سوريا في مجالات التسلح وإنفاذ القانون ومراقبة الاتصالات السلكية واللاسلكية.
وخلال السنوات المتتالية أصبح فرض العقوبات على أفراد وكيانات النظام السابق سياسة عالمية في محاربته بدون التدخل المباشر لمواجهته أو كفه عن القمع الممنهج للمظاهرات الشعبية ضده.
ووصلت ذروة هذه العقوبات بإقرار قانون قيصر عام 2019، وبدأ تطبيقه في أيار 2020. يستهدف القانون نظام الأسد وحلفاءه وجميع من يتعامل معه من خلال فرض عقوبات اقتصادية شديدة مثل تجميد أصول الأفراد والكيانات المرتبطة بالنظام السوري، وفرض قيود على التعاملات المالية، وحظر دعم المشاريع المتعلقة بإعادة الإعمار في سوريا دون التحقق من أنها لا تعود بالنفع على النظام. كما يمتد تأثير القانون ليشمل الشركات والمؤسسات الدولية التي تتعامل مع النظام السوري، مما وسّع نطاق الضغوط الاقتصادية على البلاد، ومؤخرا أقر مجلس النواب الأميركي قانون تفويض الدفاع الوطني، ويتضمن تمديد عقوبات قيصر حتى عام 2029.
بالنظر الى العقوبات المفروضة على سوريا نجدها نوعين، عقوبات فردية وهي العقوبات المفروضة على أشخاص وكيانات محددة بالنظام السابق، وعقوبات قطاعية وهي العقوبات المفروضة على قطاعات وصناعات محددة دون التمييز بين القطاع الخاص والعام، مثل العقوبات المفروضة على قطاع الطيران المدني كمنع تزويد الخطوط الجوية السورية بقع غيار للطائرات والوقود والقطاع المصرفي كالعقوبات المفروضة على مصرف سوريا المركزي ومنع التعامل معه واجراء أي تحويلات مالية منه أو اليه.
بعد السرد الموجز لتسلسل العقوبات الاقتصادية على نظام الأسد واذرعه نلاحظ مايلي:
- تعرف العقوبات القطاعية بأنها عقوبات عمياء، أي أنها تفرض على قطاع كامل بجميع المؤسسات والشركات العاملة فيه بدون تمييز أكانت حكومية أو خاصة، يمكن تبرير هذه العقوبات كون النظام السابق مسيطر بشكل كامل على جميع الشركات والمؤسسات داخل سوريا، ولكن هؤلاء يستطيعون بسهولة الالتفاف على هذه العقوبات بسبب الدعم اللوجستي لشبكة العلاقات الكبيرة التي يتمتع بها النظام.
- لم تستطع هذه العقوبات كبح لجام نظام الأسد بالكف عن استخدام القوة العسكرية ضد المدنيين، بل زادت سطوته وازداد اعتماده على الأسواق غير الرسمية لتمويل احتياجاته العسكرية والاقتصادية، بالنظر إلى هذه العقوبات خلال الأعوام الأربعة عشر الماضية نجد تأثيرها على نظام الأسد محدود ولكن تأثيره أكبر على الاقتصاد السوري ككل، فالنظام على مدار هذه السنوات استطاع الالتفاف على العقوبات بشكل عجيب، فمع بداية تطبيق هذه العقوبات نجد أن النظام أعطى دورا أكبر للقطاع الخاص وظهرت أسماء جديدة من رجال الأعمال لم تكن معروفة من قبل مثل سامر الفوز وحسام قاطرجي وأيمن جابر وغيرهم من تجار الحرب، هؤلاء قدموا الدعم المادي واللوجستي للنظام والعمل كوسطاء له، من خلال أعمالهم غير المشروعة مثل التهريب وتجارة الأعضاء الإتاوات المفروضة على الحواجز التي تقيمها حواجزهم أتاحت لهؤلاء فرصة لزيادة دخلهم، وتكديس الثروة لديهم، وبالتالي دعم مالي أكبر للنظام لتمويل عملياته العسكرية والأمنية في البلاد، فكلما ازداد احتياج النظام للأموال ازدادت الإتاوات وأعمال التهريب والتعفيش !
العقوبات القطاعية خاصة سمحت بنمو الأسواق السوداء لتحويل الأموال من وإلى سوريا وذلك بسبب العقوبات المفروضة على القطاع المالي السوري ومصرف سوريا المركزي، هذه الأموال كانت تأتي من السوريين المقيمين في الخارج إلى عائلاتهم في الداخل، وقد استفاد من نمو هذه الأسواق الجماعات الإرهابية النشطة في المنطقة، فأصبح من الصعب تتبع مصادر التمويل الخاصة بها، وكما لجأ النظام للتهريب لسد احتياجاته والالتفاف على العقوبات أيضا استفادت هذه الجماعات من الأسواق غير الرسمية في تنمية مواردها المالية، مما أنتج لنا كيانا أمد بعمر النظام وهو داعش.
- نلاحظ أن هذه العقوبات لم تردع حلفاء النظام الرئيسيين "روسيا وإيران " من الكف عن تقديم الدعم المالي والأمني واللوجستي لنظام الأسد، بل كلما ازداد الحصار الاقتصادي الدولي له زاد من تنازلاته لحلفائه مقابل تقديمهم الدعم المطلوب بدون أي رقيب.
- مع تشديد الحصار الاقتصادي الدولي على النظام السوري و اشتداد العمليات العسكرية وازدياد احتياجات النظام الأموال والعتاد، أصبح من الضروري البحث عن مورد مالي إضافي، فكانت تجارة الكبتاغون كالدجاجة التي تبيض ذهبا، فبحسب معهد "نيولاينز" فإن تجارة الكبتاغون أصبحت جزءاً لا يتجزأ من الاقتصاد غير الرسمي الذي تهيمن عليه الدولة والمجموعات التابعة لها، والذين جنوا حوالي 5.7 مليار دولار من تجارة المخدرات غير المشروعة في العام 2021 وحده، وهو رقم يُعتبر ضخماً بالنظر إلى الوضع الاقتصادي المتدهور في سوريا في تلك الفترة، ووفقًا للبيانات الصادرة عن الحكومة البريطانية، فإن سوريا كانت مسؤولة عن إنتاج ما يقارب 80% من الكبتاغون العالمي، ويعتبر البنك الدولي سوريا بأنها موطناً منتجا ومصدرا رئيسياً للكبتاغون حول العالم، وتصنف كمركز إقليمي لهذه الصناعة التي تصل قيمتها السوقية بالبلاد إلى حوالي 5.6 مليار دولار، فيما تستفيد الجهات الفعالة بنحو 1.8 مليار دولار سنوياً من هذه التجارة.
بعد كل ما ذكر وجب رفع العقوبات القطاعية خاصة فورا وبدون أي تفاوض أو مساومة للأسباب التالية:
1- العقوبات القطاعية فرضت كون نظام الأسد كان المسيطر الوحيد عليها، ومع سقوط النظام سقط سبب فرض هذه العقوبات، فأصبحت هذه العقوبات بالوقت الحالي وفي ظل الظروف الحالية تستهدف الشعب السوري لوحده.
2- بعد 14 عاما من بداية الثورة سقط نظام الأسد مخلفا ورائه دمارا هائلا للبنية التحتية في عموم سوريا وخاصة المدن التي ظلت تحت سيطرة المعارضة السورية، مما يتطلب إعادة الإعمار لهذه المناطق وتدخل منظمات المجتمع الدولي بشكل عاجل لتقديم الدعم الإنساني المطلوب، لكن في ظل استمرار هذه العقوبات لا تستطيع المنظمات الدولية العمل بشكل مباشر داخل سوريا نتيجة القيود المفروضة على التحويلات المالية للداخل السوري وادراج هيئة تحرير الشام على لوائح الإرهاب في الأمم المتحدة. مما يؤدي إلى عرقلة العمل الإنساني الموجه للشعب السوري.
تشكل العقوبات عائقا أمام المستثمرين السوريين والدوليين للاستثمار المباشر في سوريا، بسبب مشكلات التحويل المالي والعقوبات المفروضة على النقل البحري والجوي، وكما هو معلوم أن لهذه الاستثمارات أهميتها الاقتصادية والاجتماعية، وذلك من خلال تقليل نسب البطالة، ودفع عجلة الانتاج الصناعي، وزيادة التدفقات المالية.
3- لا يمكن البدء بعملية اعادة الاعمار في سوريا بدون رفع العقوبات الاقتصادية عليها، فالوضع الحالي لايسمح للدول بتقديم المنح المالية لاعادة بناء البنية التحتية المتهالكة في سوريا.
4- إن شرعنة التحويلات المالية إلى سوريا واعادة تفعيل نظام سويفت العالمي يقضي تلقائيا على سوق التحويلات المالية السوداء وبالتالي رقابة أكبر على التحويلات المالية ومنع تسرب الأموال إلى منظمات ارهابية محظورة واستفادة أكبر للاقتصاد السوري الكلي بسبب زيادة النقد الأجنبي في السوق المحلي.
5- تدعي الولايات المتحدة الأمريكية ودول الاتحاد الأوروبي أن هذه العقوبات سيتم رفعها فورا بعد أن تفي هيئة تحرير الشام بوعودها المتعلقة باحترام الأقليات والانتقال السلمي الديمقراطي للسلطة في سوريا وكتابة دستور جديد يحترم جميع الاثنيات والعرقيات التي تعيش داخل الأراضي السورية.
وهذا مبرر يمكن أن مشروع ولكن لا يجب إقران جميع العقوبات بما يجب على الهيئة فعله، لذلك يجب رفع العقوبات القطاعية المفروضة على سوريا والتي تمس بشكل مباشر الإنسان السوري بغض النظر عن الجهة التي سوف تحكمه.
وأخيرا يجب التأكيد أيضا أن دعودتنا لرفع العقوبات عن سوريا لا يعني رفع العقوبات الفردية المفروضة على نظام الأسد والكيانات المرتبطة فيه.